فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحقّ على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه، وأنه يَعود إلى مسيس امرأته، وتبقى الكفارة ذنبًا عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار.
{مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ}.
الإِشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكورُ لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيمانًا كاملًا بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإِيمان بأعمال أهل الجاهلية، وهذا زيادة في تشنيع الظهار، وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصةِ في عدم الاعتداد به وفي الخلاص منه بالكفارة، لتيسير الإِيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإِشارة، واللام للتعليل.
ولما كان المشار إليه وهو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا عِوضًا عن تحرير رقبة كان من عُلّل به تحريرُ رقبة منسحبًا على الصيام والإِطعام، وما علّل به الصيام والإِطعام منسحبًا على تحرير رقبة، فأفاد أن كلاّ من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكينًا مشتمل على كلتا العلّتين وهما: الموعظة والإِيمان بالله ورسوله.
والإِشارة في {وتلك حدود الله} إلى ما أشير إليه بـ {ذلك}، وجيء له باسم إشارةِ التأنيث نظرًا للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة [البقرة: 229].
وجملة {وللكافرين عذاب أليم} تتميم لجملة {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}، أي: ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإِسلام.
وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية.
وهذا كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37]، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {قَدْ سَمِعَ الله}
قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بإدغام الدال في السين، وقرأ الباقون بالإظهار.
قال الكسائي: من بيَّن الدال عند السين، فلسانه أعجميّ وليس بعربيّ {قول التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} أي: تراجعك الكلام في شأنه {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} معطوف على تجادلك.
والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها: «قد حرمت عليه»، قالت: والله ما ذكر طلاقًا، ثم تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وإن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللَّهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله: {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم، فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية، وقيل: هي خولة بنت حكيم، وقيل: اسمها جميلة، والأوّل أصح، وقيل: هي بنت خويلد، وقال الماوردي: إنها نسبت تارة إلى أبيها، وتارة إلى جدّها، وأحدهما أبوها، والآخر جدّها، فهي: خولة بنت ثعلبة بن خويلد، وجملة {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها أي: والله يعلم تراجعكما في الكلام {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة.
ثم بيّن سبحانه شأن الظهار في نفسه، وذكر حكمه، فقال: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} قرأ الجمهور: {يظهرون} بالتشديد مع فتح حرف المضارعة.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {يظاهرون} بفتح الياء، وتشديد الظاء، وزيادة ألف، وقرأ أبو العالية، وعاصم، وزرّ بن حبيش: {يظاهرون} بفك الإدغام، ومعنى الظهار: أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ولا خلاف في كون هذا ظهارًا.
واختلفوا إذا قال: أنت عليّ كظهر ابنتي، أو أختي، أو غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار، وبه قال الحسن، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري.
وقال جماعة منهم قتادة والشعبي: إنه لا يكون ظهارًا بل يختصّ الظهار بالأمّ وحدها.
واختلفت الرواية عن الشافعي، فروي عنه كالقول الأوّل، وروي عنه كالقول الثاني، وأصل الظهار مشتق من الظهر.
واختلفوا إذا قال لامرأته: أنت عليّ كرأس أمي، أو يدها، أو رجلها، أو نحو ذلك؟ هل يكون ظهارًا أم لا وهكذا إذا قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهارًا.
وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحلّ له النظر إليه لم يكن ظهارًا، وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلاّ في الظهر وحده.
واختلفوا إذا شبّه امرأته بأجنبية فقيل: يكون ظهارًا وقيل: لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع.
وجملة: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} في محل رفع على أنها خبر الموصول، أي: ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم.
قرأ الجمهور {أمهاتهم} بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل ليس.
وقرأ أبو عمرو، والسلمي بالرّفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد، وبني أسد.
ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال: {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} أي: ما أمهاتهم إلاّ النساء اللائي ولدنهم، ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} أي: وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكرًا من القول، أي: فظيعًا من القول ينكره الشرع، والزور: الكذب، وانتصاب {منكرًا}، و{زورًا} على أنهما صفة لمصدر محذوف، أي: قولا منكرًا وزورًا {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر.
{والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ} لما ذكر سبحانه الظهار إجمالًا ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه، والمعنى: والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور، ثم يعودون لما قالوا، أي: إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي، كما في قوله: {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} [النور: 17] أي: إلى مثله، قال الأخفش: {لِمَا قالواْ} وإلى ما قالوا يتعاقبان.
قال: {وَقالواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقال: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] وقال: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ} [هود: 36] وقال الفرّاء: اللام بمعنى عن، والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا، ويريدون الوطء.
وقال الزجاج: المعنى: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
قال الأخفش أيضًا: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى: والذين يظهرون من نسائهم، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لما قالوا، أي: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا.
فالجار في قوله: {لِمَا قالواْ} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ، وهو فعليهم.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال: الأوّل: أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك.
وقيل: هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضًا عن مالك.
وقيل: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي.
وقيل: هو الكفارة، والمعنى: أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة.
وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر.
وروي عن بكير بن الأشبح، وأبي العالية، والفراء.
والمعنى: ثم يعودون إلى قول ما قالوا.
والموصول مبتدأ، وخبره: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} على تقدير، فعليهم تحرير رقبة، كما تقدّم، أو قالوا وجب عليهم إعتاق رقبة، يقال: حررته، أي: جعلته حرًّا، والظاهر أنها تجزئ أيّ رقبة كانت، وقيل: يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل؛ وبالأول: قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني: قال مالك، والشافعي، واشترطا أيضًا سلامتها من كل عيب {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} المراد بالتماس هنا: الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر، وقيل: إن المراد به الاستمتاع بالجماع، أو اللمس، أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ، وخبره: {تُوعَظُونَ بِهِ} أي: تؤمرون به، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة.
قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.
ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة، فقال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي: فمن لم يجد الرّقبة في ملكه، ولا تمكن من قيمتها، فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض، فقال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والشعبي، والشافعي، ومالك: إنه يبني، ولا يستأنف.
وقال أبو حنيفة: إنه يستأنف، وهو مرويّ عن الشافعي؛ ومعنى {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}: هو ما تقدّم قريبًا، فلو وطئ ليلًا أو نهارًا عمدًا أو خطأ استأنف، وبه قال أبو حنيفة، ومالك.
وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطئ ليلًا؛ لأنه ليس محلًا للصوم، والأول أولى {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} يعني: صيام شهرين متتابعين {فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} أي: فعليه أن يطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين مدّان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي وغيره: لكل مسكين مدّ واحد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرّة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرّة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الأحكام، وهو مبتدأ، وخبره مقدّر، أي: ذلك واقع {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب، والتقدير: فعلنا ذلك لتؤمنوا، أي: لتصدّقوا أن الله أمر به وشرعه، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، والإشارة بقوله: {وَتِلْكَ} إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ، وخبره: {حُدُود الله} فلا تجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بيّن لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة {وللكافرين} الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعملون بما حدّه الله لعباده {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو عذاب جهنم، وسماه كفرًا تغليظًا وتشديدًا.
وقد أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهمّ إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.
وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: كان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها: خولة بنت خويلد، فظاهر منها، فأسقط في يده وقال: ما أراك إلاّ قد حرمت عليّ، فانطلقي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاسأليه، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فأخبرته، فقال: «يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء»، فأنزل الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا خولة أبشري» قالت: خيرًا.